صناعة الكذب أميركا أسست داعش
وردني قبل يومين بين السيل العارم من الرسائل الإلكترونية خبر بعنوان «كلينتون: نحن أسسنا داعش»، وتحت العنوان عبارة: «بغداد - متابعة المشرق». قرأت بضعة أسطر منه جاء فيها:
فجرت وزيرة الخارجية الاميركية السابقة هيلاري كلينتون في كتاب لها أطلقت
عليه اسم «خيارات صعبة»، مفاجأة من الطراز الثقيل، عندما اعترفت بأن الادارة الاميركية
قامت بتأسيس مجاميع «داعش» الاجرامية لتقسيم منطقة الشرق الاوسط.
وقالت كلينتون في كتاب مذكراتها الذي صدر في أميركا مؤخراً «دخلنا الحرب
العراقية والليبية والسورية وكل شيء كان على ما يرام وجيداً جداً وفجأة قامت ثورة
30/6 - 3/7 في مصر وكل شيء تغير خلال 72 ساعة».
وأضافت أنه «تم الاتفاق على إعلان الدولة الإسلامية يوم 5/7/2013، وكنا
ننتظر الإعلان لكي نعترف نحن واوروبا بها فوراً».
ولم أكمل قراءة الخبر في حينه لأني شممت منه رائحة التلفيق النتنة فحذفته،
كما أحذف الكثير من الرسائل المشبوهة تحاشياً لإضاعة الوقت.
وفي صباح هذا اليوم اتصل بي صديق من أربيل يسأل عن صحة هذا الخبر ويقول
إنه أحدث ضجة وقلقاً كبيرين، لا سيما عندما أردفه خبر آخر عن تصريح قيل أن السفير الأميركي
في بيروت أدلى به يقول ان الخبر الأول «ينطوي على تحريف» ما يدل على أنه ينطوي أيضاً
على شيء من الصحة، وهذا أمر خطير للغاية.
وعدت صديقي بتحري الأمر، وعدت إلى الخبر الأصلي لأقرأه بكامله هذه المرة
وبتمعن واهتمام، فزادت قناعتي بأنه ملفق جملة وتفصيلاً، لأني كنت تعاملت مع هيلاري
كلينتون بصفتي سفير العراق في الولايات المتحدة منذ أن كانت عضواً في مجلس الشيوخ ثم
أثناء عملها وزيرة للخارجية وحضرت جلسات عديدة بُحثت فيها قضايا العراق، وفي تلك الفترة
كان تعاملي لا يقتصر على مسؤولي وزارة الخارجية بل يتعدى ذلك إلى الشخصيات والمؤسسات
المهمة الأخرى مثل مستشار الأمن القومي والبيت الأبيض والبنتاغون وغيرها، وأعلم تماماً
أن مثل هذه الأقوال لو كانت واردة فعلاً في كتاب كلينتون لأثارت زوبعة في أميركا قبل
إثارتها في العراق، لأن الصحافة هنا تطلع على كتب السياسيين في العادة قبل جمهور القراء
وهي تتصيد القصص المثيرة، وهل هناك ما هو أكثر إثارة من أن الولايات المتحدة هي التي
أسست منظمة إرهابية مثل «داعش»؟
ولكن زيادة في التأكد و»ليطمئن قلبي» ذهبت إلى أقرب مكتبة واشتريت الكتاب
الموسوم “Hard Choices” أو «خيارات صعبة» وعدت
به لأنظر فيه وأقطع الشك باليقين.
جلست وتصفحت الكتاب فوجدته يتألف من 635 صفحة من القطع الكبير مقسمة على
ستة أجزاء تحتوي على خمسة وعشرين فصلاً. الجزء الخامس من الكتاب - وفيه سبعة فصول
- يدور حول الشرق الأوسط. أما الأجزاء الأخرى فهي عن الشرق الأقصى وعن باكستان وأفغانستان
وعن أوروبا وغيرها من أمور العلاقات الدولية والمستقبل الذي ترتجيه الكاتبة لعلاقات
الولايات المتحدة بالعالم الخارجي. طالعت في الكتاب كل ما يتعلق بمصر وبالعراق وسورية
وبـ «الإخوان المسلمين» وما يتعلق بالربيع العربي فلم أجد فيه أي شيء له أدنى علاقة
من قريب أو من بعيد بالخبر موضوع البحث، فتيقنت أنه (أي الخبر) محض افتراء لا أساس
له من الصحة.
ذكرني هذا بحالة مماثلة في بداية عام 2011 عندما أعلن وزير الدفاع الأميركي
الأسبق دونالد رامسفلد عن نشر كتاب مذكراته بعنوان «معلوم وغير معلوم» انتشرت إشاعة
مفادها بأن المذكرات تلك تتضمن إقراراً بأن الأميركيين دفعوا إلى آية الله العظمى علي
السستاني مبلغ مئتي مليون دولار مقابل التعاون معهم وضمان عدم مقاومة الشيعة للاحتلال
الأميركي. كنت آنذاك لا أزال سفيراً في واشنطن وكانت مذكرات رامسفلد قد وزعت على الصحافيين
ولكنه لم يطرح في الأسواق بعد. اتصلنا رسمياً بمكتب رامسفلد للاستفسار فأخبرونا أن
الخبر عار عن الصحة ولم يرد في الكتاب أي شيء من هذا القبيل وأصدروا تكذيباً رسمياً
بهذا المعنى. وعندما صدر الكتاب كان بحد ذاته التكذيب الذي لا مراء فيه. ومع ذلك هناك
من لا يزال يتداول هذه الكذبة على أنها حقيقة.
وفي وقت آخر كنت أنا ضحية «صناعة الكذب» عندما أورد موقع «براثا» خبراً
يقول إن أحد مرافقي رئيس الوزراء نوري المالكي كان قد اعتدى علي أثناء زيارة الوفد
العراقي للبيت الأبيض، وهو أمر لا يمكن أن يُعقل وأصدر وفد المالكي تكذيباً في حينه
ومع ذلك فإن بعضهم لا يزال يتوهم أن فيه شيئاً من الصحة.
التساؤل الذي ينبغي أن يطرح هو: من يقف وراء هذه الظاهرة، ظاهرة صناعة
الأخبار الملفقة؟ نحن نعلم أن أجهزة الاستخبارات لبعض الدول فيها أقسام متخصصة بالتشويش
الإعلامي ونشر الإشاعات - ما يسمى بالإنكليزية: «Disinformation» لأن الحروب والصراعات الآن تخاض ليس بالأسلحة العسكرية فحسب وإنما بالمعلومات
والأكاذيب أيضاً، والحرب النفسية جانب مهم من الحرب التقليدية. الذين «ينتجون» هذه
الأكاذيب محترفون. هم يعرفون تماماً أن عدداً من الناس سوف يكشف زيف هذه الأكاذيب ولكنهم
لا يكترثون بذلك لأنهم يعولون على انتشارها الجزئي وتقبلها من شريحة من الناس ربما
تكون واسعة - وبخاصة إذا كانت تتماشى مع أهوائهم - وتحولها مع الوقت إلى قناعات ترقى
إلى مستوى الحقيقة في عقولهم.
هذه «الفيروسات» التي تبثها اجهزة الاستخبارات أو بعض الأطراف المتقاتلة
لا تؤثر في واقع الصراع كثيراً إذا كان المجتمع المستهدف بها يتمتع بمناعة قائمة على
الوعي والإطلاع الواسع. ولكن إذا كان المجتمع ضعيف المناعة أو عديمها كما هي الحال
عندنا، فإنها تسري فيه سريان النار في الهشيم فتزيد من البلبلة التي يتخبط فيها والأهم
من ذلك أنها تعمّق التمترس والتخندق لدى الأطراف المتصارعة، وهو المطلوب.
والآن لنترك السؤال التالي مفتوحاً:
من هي الجهة التي «صنعت» هذا الخبر الجديد؟ ومن المستفيد الأول منه؟
������ ������� ������