الـرمـزيـة
بقلم : أ.مجد القصص
المذهب الرمزي :
الأدب الرمزي هو الأدب الذي إذا قرأه القارىء العادي لا يفهم منه إلا ظاهره, أما القارىء المتأمل فيفهم منه هذا الظاهر ولكنه لا يقف عنده، بل يمضي إلى ما تحت سطحه. وما تحت السطح هو جوهر الأدب الرمزي. ولكن هذا الجوهر يتلقاه القارىء المتأمل بصور مختلفة في الذهن، صور تتفاوت في مقدار ما فيها من جمال ومعان وأهداف، والأعجب بأن قارئا متأملا آخر قد تتخايل له صور جديدة غير تلك التي مرت بذهن القارىء المتأمل الاول.
بدأت الحركة الرمزية في الأدب الأوروبي الحديث في أواخر القرن التاسع عشر وأول ما نشأت في فرنسا، وكان أبطالها بعيدين عن المسرح وعلى رأسهم ( مالارميه ) و ( فرلان ) و( بودلير ) والذي حفزهم إلى حركتهم الرمزية هو الرد على رجال المذهب الطبيعي والواقعي وكانوا بذلك يتمردون على شعر البارناسيين ( أصحاب الشعر الموزون ) وقد وجدوا أن الحياة لا يمكن تصنيفها أو تحديدها، وأن هناك الكثير من العواطف والأحساسيس قد لا تخدم علماء الاجتماع في شيء ومع ذلك فهي ترمز للوجود كله.
تنظر الفلسفة الرمزية إلى الإنسان والحياة من حيث أن الذات هي الأصل ومن خلالها نرى مظاهر الوجود، وأن هذه المظاهر لا تنكشف لنا حقائقها إلا من خلال الحلم، فالمذهب الرمزي يربط بين عالمين : العالم المادي والعالم الغيبي، في وحدة الرمز ويلقي كل جانب ضوءه على الآخر، يقول بودلير " ليس كل ما في الأرض إلا وجود جزئي وما الحقيقة الحقة إلا بالحلم ".
يعتبر الرمزيون بأن الحقيقة لا تبدو في صورتها الصادقة الأصيلة إلا في أعماق الأشياء وليس تحت سطحها، وكانت طريقتهم في الكشف عن هذه الأعماق بالرمز والإيحاء والتلميح، وليس بالجهر والفضح والتصريح. لأن الرمز والإيحاء والتلميح في نظرهم هي عوامل خلاقة، تولد المعاني في ذهن القارىء في حين الجهر والفضح والتصريح هي من عوامل الهدم وتخريب الصورة الفنية وتعويد ذهن القارىء على البلادة والإتكال على غيره في معرفة الأشياء والوقوف عند ظاهرها وقوفا فقيرا ضحلا. ولهذا السبب حفلت آداب الرمزيين وقصائدهم بالألغاز والمعميات وبالصور البيانية وألوان التشابيه والمجازات التمثيلية المعقدة في معظم الأحيان.
أما في المسرح فيعتبر الكاتب المسرحي البلجيكي " موريس ميترلنك " (1862 – 1949م) هو مؤسس قواعد المذهب الرمزي في المسرح، كما يعتبره البعض الآخر مؤسسا للمذهب التعبيري أيضا. تأثر ميترلنك بالفلسفات الروحانية والميتافيزيقية، ورغم أن تعليمه الديني لم يؤثر به كثيرا إلا أنه آمن بالروح ايمانا عميقا، استقر ميترلنك في شبابه في باريس وقدم سلسلة مسرحيات من فصل واحد ذات مضمون رقيق ومن هذه المسرحيات " العميان " عام 1890 و " الدخيلة " عام 1890 و" موت تانتاجيل " عام1991. لقد أعلن متيرلنك في مقالته" تراجيديا كل يوم " من كتابه " كنز المتواضع " عام 1896م " أن مهمة الشاعر هي كشف الخصائص الخفية اللامرئية في الحياة، أي عظمتها وبؤسها اللذين لا علاقة لهما بالواقعية، فإذا ما بقيا بالمستوى الواقعي فسنظل نجهل هذا العالم الأبدي وبالتالي المعنى الحقيقي الموجود في القدر ".
نظّر ميترلنك لما يسمى ب " المسرح السكوني " وفيها يحرض الخبرة الصوفية وحالة اللاوعي بشكل مسرحي، وقد استعان ميترلنك بأعمال اسخيليوس كنماذج للدراما التي لا تتضمن حركة أو حادثة وإنما حدثا سايكولوجيا فقط، وبهذه النظرة تتسع الدراما الرمزية عنده لتلتقي مع كل التجليات المسرحية للحلم والخيال.
ارتأيت أن الخص مسرحيته الشهيرة " الطائر الأزرق " والتي كتبها عام 1908م وفيها يصور تجربة الإنسان في بحثه الدؤوب عن السعادة وحقائق الحياة، تلك السعادة التي يجوب بطل المسرحية بحثا عنها ليكتشف في نهاية الأمر أنها لا توجد إلا في أعماقه، وهو فقط تعوزه تلك القوة والروابط المعنوية التي تصل الإنسان بالآخرين والأشياء.
لقد ذهب الطفلان الصغيران في رحلتهما العجيبة للبحث عن الطائر الأزرق الذي يرمز عند ميترلنك للسعادة فتتكشف لهما أثناء رحلتهما كل سرائر الأشياء وضمائرها بفضل ماسة سحرية كانت قد أعطتها لهما إحدى الحوريات فزارا كل البقاع والممالك بلاد الذكرى، مملكة الليل، موطن السعادة، موطن الموتى، مملكة المستقبل الخ بحثا عن الطائر الأزرق ولكن دون جدوى، وفي كل هذه الأماكن التي ذهبا إليها كانا يريان العجائب والغرائب، ما يخيف ويروع، ما يفرح ويبهج وفي كل مرة يمسكان بالطائر الأزرق يتغير لونه أو يموت بين أيديهما، وفي نهاية المطاف يتبدد الحلم. يستقيظ الطفلان ليجدا نفسيهما ما زالا في منزل أبيهما الحطاب الفقير المتواضع، وعندما يتفقد الطفل عصفوره الذي طلبته جارته لإبنتها المريضة يلاحظ أن لونه قد أصبح شديد الزرقة فيقول : لقد ذهبنا بعيدا وهو موجود هنا. الدلالة هنا على أن السعادة لن نجدها إلا في أعماقنا عندما يغمرنا ذلك الفيض العاطفي وتنفتح أنفسنا نحو الآخرين. ينطلق الطائر الأزرق في الهواء إلى غير رجعة ليقول الطفل لجارته الصغيرة : لا تبكي سأمسكه مرة أخرى وهذه دلالة رمزية ثانية يريد ميترلنك أن يقول لنا بأن السعادة لا يمكن الإبقاء عليها إلا للحظات قلائل فيجد الإنسان نفسه أمام القدر. وهنا يبرز العنصر القدري المرمز في تلك الحادثة وجوهر الإنسان يتمثل في هذا البحث الدائم الذي لا تعرف له نهاية.
أيضا من أهم الكتاب الذي كتبوا في المسرحية الرمزية بعد ميترلنك هو " ابسن " فقد تعددت المذاهب التي كتب بها ابسن، فقد كتب أعمالا مسرحية نسبت لكل من المذهب الطبيعي والواقعي مثل " مأساة الأشباح " والتي لو تخلت عن أثر البيئة والوراثة وهما اللذان يحلان محل القضاء والقدر في أحداث المأساة في المذهب الطبيعي لاعتبرت من أرقى مسرحيات ابسن الواقعية ، وهنا يجب أن يدرك القارىء بأن أعمال ابسن لا يمكن وصفها بالرمزية المطلقة باستثناء مسرحيتيه : برجنيت وبراند " أما بيت الدمية والبطة البرية " فتندرج تحت المذهب الواقعي إلا أن آثار المذهب الرمزي واضحة في هذه الأعمال. وهنا أجد طريفا أن أذكر حادثة حدثت مع ابسن وتحديدا عندما كتب مسرحيته أو قصيدته الشعرية " بيرجنت " أن ابسن عندما كتبها لم يقصد أن تمثل على المسرح بل كان الهدف من كتابتها هو القراءة ولتنبيه شباب بلاده الكسلان المتراخي إلى عيوبه الخلقية والسلوكية، وإلى أنه يسلم روحه لأحلام الكسالى المتراخين في زمن استيقظت فيه الأمم على صوت الثورة الصناعية الإشتراكية المدوى وما أحدثته الأفكار الفلسفية العقلية الجديدة من وعي عام في جميع الأركان. لكن ابسن سمع أن رجال المسرح الألماني يخرجون مسرحيته الرمزية " بيرجينت " فلم يملك إلا أن سافر إلى ألمانيا ليشهد ماذا يصنع هؤلاء الألمان في تلك القطعة التي يكاد يكون اخراجها في المسرح مستحيلا. فلما شاهدها راعه الإخراج ثم التمثيل لكن الذي راعه أكثر وملك عليه تفكيره هو أن هؤلاء الألمان قد فسروا المسرحية تفسيرا رمزيا وخرجوا لها من المعاني ما لم يخطر للمؤلف على بال. وهذا هو الأدب الرمزي.
وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى أن أعمال " وليام باتلر ييتس " يمكن أن تصنف تحت المذهب الرمزي مثل مسرحيتة ( كاثلين ني هوليهان ) ومسرحيته الأخرى " موطن الحبيب ". كما أننا كنا قد مررنا في مسرح العصور الوسطى على المسرحيات الأخلاقية وهذه المسرحيات يمكن أن تصنف أيضا في مدارج المذهب الرمزي.
������ ������� ������